الجمعة، 12 فبراير 2010

ذكرى الإمام البنا.. التضحية = استمرار الدعوة

بتاريخ 6:06 م بواسطة احمد خيرى


ايها الاخواه الاحباب قراء مدونة فى حب مصر احب انا اقدم لكم نبزه عن الامام البنا بمناسبة زكرى استشهاده
في مساء الثاني عشر من شهر فبراير 1949 وفي غفلة من مصر ومحيطها العربي والإسلامي، جرت تفاصيل جريمة كبرى على نهضة العرب والمسلمين، التي بدت بواكيرها وإرهاصاتها في البروز والتجلي، خاصةً بعد أن سجَّل الإخوان انتصاراتٍ مذهلةً في حرب فلسطين 1948.



وقد وقعت المصيبة والحدث الجلل باغتيال الإمام والمصلح المجدد الأستاذ حسن البنا، وهو لا يزال بعد في الثالثة والأربعين من عمره.



لقد تم وضع الخطة الجهنمية لاغتيال الشيخ الأعزل في شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًّا) أمام جمعية الشبان المسلمين، وقد أمر بترتيب الجريمة ملكٌ فاسدٌ وجهازٌ أمنيٌّ اعتاد على عمليات الخيانة والتآمر، لكن الأيام كانت حبلى بالكثير من الأحداث، وانتقم القدر من الملك الغادر وحاشيته الفاسدة، وذاق من كأس الاغتيال نفسها التي سقاها للإمام الأعزل، ولكن رغم ذلك كان الفرق كبيرًا؛ فقد كان اغتيال الإمام بإذن الله شهادةً وصحوةً لعقول وقلوب كثيرين بادروا برفع لوائه، وكان حافزًا لمريديه وتلاميذه أن يصرُّوا على المضيِّ في الطريق، بينما كان اغتيال الملك الفاسد على يد فتاة ليل في كأس مترعة بالشراب الحرام.









لماذا إغتالوا الإمام الشهيد حسن البنا ؟

د. أحمد محمد بحر


لعل من رحمة الله بالمسلمين أن وفق الله الإمام حسن البنا بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر 1928م حيث جاءت هذه الجماعة في مرحلة من أخطر المراحل التي تمر بها الأمة، فسقوط الخلافة العثمانية، والاحتلال البريطاني جاثم فوق أرض الكنانة، والمؤامرات الكبرى على اغتصاب فلسطين وتسليمها لليهود. أما الساحة الإسلامية في مصر في ذلك الوقت فكانت مقتصرة على تيارين رئيسيين: الدعوة السلفية، والطرق الصوفية وكان الخلاف بينهما مستحكماً، وكان الفكر الإسلامي رهين أروقة الأزهر ومنظوماته ومصنفاته، لذلك كانت دعوة البنا في العودة إلى شمول الإسلام كل جوانب الحياة تجديداً رائداً في مجال التفكير الإسلامي، لترد الناس إلى دينهم، وتبث روح الجهاد في نفوسهم، وتعيد صياغتهم من جديد ليكونوا جنود الحق في إرساء قواعد الإسلام الحنيف، وقد أثمرت هذه الشجرة التي سقاها البنا بدمه الطاهر، ومن ثم حرص ألاَّ تكون دعوته إقليمية بل أرادها عالمية بعالمية الدعوة الإسلامية فكان له ما أراد وهذا ما نراه اليوم على أرض الواقع بحمد الله وكرمه، فما من بلد إلا وفيه نور الإخوان يسطع.

لقد كان للقضية الفلسطينية عناية خاصة لدى الإمام الشهيد حسن البنا وخاصة بعد أن سمع نداء الاستغاثة من قبل المجاهدين في فلسطين ونداء الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين حين قال: أدركوا فلسطين قبل أن تصبح أندلساً أخرى، فاستجاب الإخوان المسلمون، فكانوا أول من طرق أسماع المصريين ولفت أنظارهم إلى القضية الفلسطينية، وهم أول من عرَّفوا الناس بالخطر اليهودي الذي تدعمه بريطانيا وأروبا في حين كانت الأحزاب المصرية والعربية تغط في نوم عميق، وإيماناً من البنا بالجهاد والحفاظ على استمراريته، فقد أرسل المجاهدين من الإخوان سنة 1935 ليقفوا بجانب إخوانهم المجاهدين في فلسطين وعلى رأسهم الشيخ عز الدين القسام، وأوفد البنا الصاغ محمود لبيب لفض المنازعات بين منظمة النجادة والفتوة حيث كان له الدور الكبير في ذلك.

كما قام المجاهدون الإخوان بتكوين فريق لجمع السلاح والذخيرة، وجمع التبرعات، وفتح معسكرات التدريب، فبعث البنا محمود عبده إلى سوريا لإقامة معسكرات التدريب هناك من أجل فلسطين. الإخوان المسلمون هم أول من أنشأوا صندوق القدس لجمع التبرعات لصالح المجاهدين في فلسطين، وهم أول من قاموا بمظاهرات صاخبة بعد قرار التقسيم اشترك فيها الأزهر والجامعات المصرية وقد خاطب البنا الجماهير، فقال: لبيك فلسطين دماؤنا فداء فلسطين إني أعلن من فوق هذا المنبر أن الإخوان قد تبرعوا بدماء عشرة آلاف متطوع للاستشهاد في سبيل فلسطين، وقد أوفى البنا بما قال فأرسل كتائب الإخوان لتدافع عن مسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبلوا بلاء حسنا، ولقنوا اليهود درساً لن ينسوه أبداً، وأقبلوا على الشهادة وهم ينشدون

هو الحق يحشـد أجناده ويعتد للموقـف الفاصـل
فصفوا الكتـائب آسـاده ودكوا به دولـة الباطـل

وكانت معركة كفار ديروم ، والتبه 86 شاهداً على بسالة الإخوان وحبهم للشهادة في سبيل الله ، وخاصة وأنهم غنموا 15 مصفحة يهودية بعد أن خرج منها اليهود خوفاً وذعراً من شدة ضربات المجاهدين ، لقد كانت هدية الإخوان الذين يدافعون عن شرف وكرامة الأمة في فلسطين ويقدمون الشهيد تلو الشهيد ، ويحمون ظهر الجيش المصري من رصاص العدو الصهيوني ، أن أصدر رئيس الوزراء النقراشي قراراً بحل جماعة الإخوان المسلمين 18 / 2 / 1948 م ومصادرة ممتلكاتها وزج أفرادها داخل السجون المصرية ، أما الملك فاروق فقد أصدر أوامره إلى الدبابات المصرية وللجيش المصري بفلسطين باعتقال المجاهدين من الإخوان ، وكانت الأوامر مشددة بإطلاق النار عليهم وإبادتهم إذا لم يستسلموا للجيش المصري.

الدبابات المصرية تحاصر الإخوان وتعتقلهم وهم في ساحات القتال ، والحكومة في مصر تعتقلهم ، وتبقي البنا خارج السجن ، وتجرده من سلاحه الشخصي تمهيداً لاغتياله ، وكانت جريمة القرن العشرين باغتيال البنا بأوامر من اليهود والإنجليز وبتنفيذ زبانية الملك فاروق ، لقد تنبأ البنا بهذا الاغتيال ففي صبيحة يوم الاستشهاد رأي رؤيا مفادها أن الإمام على كرم الله وجهه خاطبه قائلاً : يا حسن انتهت مهمتك ، وأديت رسالتك ، وقبلك الله وقبل منك ، فقال رحمه الله : إن رؤيا علىّ في المنام معناها الشهادة ورغم ذلك خرج من بيته لمواصلة مسيرة الدعوة ، وفي الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم السبت 12 / 2/ 1949 م يُطلق رصاص الغدر والخيانة على الإمام البنا في أكبر ميادين القاهرة أمام دار الشبان المسلمين ، ثم ينقل إلى مستشفى القصر العيني لإسعافه " وكانت حالته ليست خطيرة " وجاءت الأوامر المشددة للمستشفى بعدم إسعافه ، وظل الدم الطاهر ينزف من جسده حتى أسلم الروح لبارئها ، لقد بلغ من خسة الحكومة المصرية وقتها أنه وبعد أن ارتكبت الجريمة النكراء ، أن أدخلت جثمان البنا إلى منزله وسط مظاهرة من رجال البوليس شاهرة المسدسات والبنادق في وجه سيدات أسرته العزل من كل سلاح ، وأرغمت السيدات على حمل النعش بين صفوف الدبابات ، بعد أن قام والده الذي تجاوز التسعين بغسله وتكفينه .. ولم يسمح لواحد من رجال هذه الأسرة بالاقتراب من الجثة .. حتى القرآن حرّم عليهم تلاوته ، ثم نقل الجسد الطاهر وسط هذه المظاهرة المسلحة إلى مسجد قيسون القريب من المنزل ولم يسمح لأحد بالصلاة ولا بالدخول إلى المسجد إلا والده ، ثم نقل الجثمان إلى المقبرة ولم يسمح لأحد بتشييعه ، حتى أن البوليس إذا رأى أحد المارة يقرأ الفاتحة كانوا يلقون القبض عليه

هكذا اغتيل البنا مجدد القرن العشرين لأنه عاش لفكرته ومات من أجلها ، لأنه بنى دعوة وأنشأ جيلاً ، وغير مجرى التاريخ لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين فلم يرض الطغاة عن ذلك !! لقد سقى شجرة الإيمان بدمه الطاهر فانبت دعوة الإخوان في كل مكان وكان لهذه الدعوة نصيب في فلسطين ، فكانت جماعة الإخوان المسلمين ، وحركة حماس وكتائب عز الدين القسام التي دوخت الاحتلال الصهيوني ، وستظل هذه الحركة الربانية باقية حتى زوال الاحتلال بإذن الله تعالى .

فسلام عليك يا إمامنا في الأولين والآخرين وإلى أن نلقاك في الفردوس الأعلى بإذن الله تعالى .

الوصايا العشر للامام حسن البنا

نرجو أن نكون ممن يطبقون هذه الوصايا .




شخصية الإمام البنا في رأي العلماء


1- فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي (شيخ الجامع الأزهر)

يقول فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي (شيخ الجامع الأزهر) في مقدمة لأول عدد من مجلة (المنار)، حين كلِّف الأستاذ البنا بإعادة إصدارها بعد وفاة مؤسسها العلاَّمة المجدِّد محمد رشيد رضا، قال فيها: "والآن قد علمت أنَّ الأستاذ حسن البنا يريد أن يبعث (المنار) ويعيد سيرتَها الأولى، فسرَّني هذا، فإن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً وثيقًا على اختلاف طبقاتهم وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة".

2- فضيلة الشيخ حسنين خلوف (مفتي مصر الأسبق) (الأئمة في مختلف العهود كانوا أعلام دين وسياسة)

"الشيخ حسن البنا (أنزله الله منازل الأبرار) من أعظم الشخصيات الإسلامية في هذا العصر، بل هو الزعيم الإسلامي الذي جاهد في الله حقَّ الجهاد، واتخَذ لدعوة الحق منهاجًا صالحًا، وسبيلاً واضحًا، واستمده من القرآن والسنة النبوية، ومن روح التشريع الإسلامي، وقام بتنفيذه بحكمة وسداد، وصبر وعزم، حتى انتشرت الدعوة الإسلامية في آفاق مصر وغيرها من بلاد الإسلام واستظلَّ برايتها خلقٌ كثير.

عرفته- رحمه الله- منذ سنين، وتوثَّقت الصداقة بيننا في اجتماعات هيئة وادي النيل العُليا لإنقاذ فلسطين الجريحة، وتحدَّثنا كثيرًا في حاضر المسلمين ومستقبل الإسلام، فكان قويَّ الأمل في مجدِ الإسلام وعزة المسلمين إذا اعتصموا بحبل القرآن المتين، واتبعوا هدْيَ النبوة الحكيم، وعالجوا مشاكلهم الاجتماعية والسياسية وغيرها بما شرعه الله في دينه القويم.

ففي الإسلام من المبادئ السامية، والتعاليم الحكيمة ما فيه، من شفاء لكل مرض، وعلاج لكل داء، وحل لكل مشكلة، وفيه من الأحكام ما لو نفِّذ، ومن الحدود والعقوبات ما لو أُقيم لسعد الناس في كل زمان ومكان بالاستقرار والاطمئنان، وعاد المسلمون إلى سيرتهم الأولى يوم كانوا أعزاء أقوياء.

تلك لمحةٌ من حديثه، وهي عقيدة كل مسلم، وأمل كل غيور على الإسلام، غير أن العلماء حبسوا هذا العلم الزاخر في الصدور، ولم يردِّدوه إلا في حلقات الدروس وفي زوايا الدور.

أما الشيخ حسن البنا- رحمه الله- فقد أخذ على نفسه عهدًا أن يرشد العامة إلى الحق، وينشر بين الناس هذه الدعوة، وينظِّم طرائقها ويعبِّد سبيلها، ويربِّي الناشئة تربيةً إسلاميةً تنزع من نفوسهم خواطر السوء، وتعرِّفهم بربهم وتدنيهم من دينهم الذي ارتضاه الله لهم، فكان له ما أراد، وتحمَّل في ذلك من المشاقِّ والمتاعب ما لا قِبَل باحتماله إلا الرجل الصبور والمؤمن الغيور، الذي يبغي رضاء ربه بما يعمل، ويشعر بدافع نفسي قوي إلى إنقاذ أمته من شر وبيل وذلٍّ مقيمٍ.

من الطبيعي- وهذه دعوته- أن يمس السياسة عن قرب، وأن يأخذ في علاج مختلف الشئون على ضوء التعاليم القرآنية، وهنا يقول الأستاذ بحق ما نقوله نحن ويقوله كل من درس الإسلام وأحاط خبرًا بالقرآن: إن الإسلام دين ودنيا، وسياسة ودولة، والمسلم الحق هو الذي يعمل للدين والدنيا معًا، فقد جاء القرآن بالعقائد الحقة، وبالأحكام الراشدة في العبادات والمعاملات ونُظُم الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجاء بالأوامر والنواهي وما يصونها من العقوبات والزواجر، وألزم المسلمين كافة العمل بها، وإقامة الدولة على أساسها، فإذا دعا حسن البنا إلى ذلك فقد دعا إليه الله ورسوله، ودعا إليه الصحابة والتابعون وسائر الأئمة والفقهاء وزعماء الإسلام في كل زمان.

يعيب عليه البعض أنه توغَّل في السياسة، وقد نوَّهتُ بالردِّ على ذلك في عدة أحاديث أذعتُها في مناسبات شتى، فالسياسة الراشدة من صميم الدين، والصدارة فيها من حقِّ العلماء بل من واجبهم، الذي لا يدفعه عنهم أحد، وما أُصيب العلماء بالوهن والضعف وما استعلى عليهم الأدنون وتطاول عليهم الأرذلون إلا من يوم أن استكانوا لأولئك الذين يحاولون احتكار السياسة، ويستأثرون بالسلطان في الشعوب والأمم الإسلامية قضاء للُباناتهم واغتصابًا للحقوق.

وإذا صحَّ فصلُ الدين عن السياسة أو بعبارة أخرى الحجْر على علماء الدين في الاشتغال بسياسة الدولة- بالنسبة لسائر الأديان- فلا يصح بالنسبة للدين الإسلامي الحنيف، الذي امتاز على غيره بالتشريع الكفيل بسعادة الدين والدنيا معًا.

وقد كان الأئمة في مختلف عهود الإسلام أعلامَ دينٍ وسياسةٍ، فما بال الناس اليوم يُنكرون على علماء المسلمين أن يُعنوا بشئون الشعوب الإسلامية، ويغضبوا لكرامتها، ويجاهدوا لإعزازها، وتبصير الناس بما يموِّه به الاستعماريون من حيل، ويدبرون من فتن ويدسون من سموم.

وما الذي خوَّلهم حق احتكار الساسة والحكم؟! إنَّ من حقِّ العلماء- وأعني بهم القائمين بالدعوة إلى الله لا خصوص حملة الشهادات العلمية الرسمية- أن يمثَّلوا في كلِّ شئون الدولة، وخاصةً في السلطة التشريعية، حتى لا يشرع في الدولة الإسلامية ما ينافي أحكام الإسلام، وأن يكون للتشريع الإسلامي الذي لهم به اختصاصٌ واضحٌ الأثرُ الأولُ في التشريع والتنفيذ.

إنَّ الدعوةَ في جوهرها دعوةٌ واضحةُ المعالم، والقلوب الموفَّقة قد انعطفت إليها، والشعب قد آمَن بها، ومن إنكار الحقائق أن يزعم زاعم انصرافَ السوادِ الأعظم من الأمة عنها، وكلما أمضت السياسة في توهينها ازدادت قوةً وذيوعًا، وأيقن الناسُ بما فيها من خيرٍ وصلاحٍ ومن الإخلاص لولاة الأمور الصدقَ في القول والأمانةَ في الأداء، فليعلموا أن الدعوةَ عقيدةٌ استقرت في النفوس، وأن مقاومةَ السياسة لها ولدعاتها لا يزيدها إلا ثباتًا ورسوخًا، وإنَّ من الراسخ في العقائد أن اليهود- ومن ورائهم الدولة الغاصبة والدولة الاستعمارية- هم الذين يكيدون لها ويبذلون كلَّ ما في استطاعتهم لاستئصالها، ولكن هيهات ما يريدون!!

وبعد.. فإنا نسأل الله- تبارك وتعالى- للمسلمين خيرًا عميمًا، ورشدًا أمينًا، وتوفيقًا سديدًا لكل مَن يدعو إلى خير ورشاد، ورحمةً واسعةً للأستاذ العظيم". (مجلة الدعوة- 13 فبراير 1951م)

3- فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري (وزير الأوقاف المصري الأسبق) (الإنسانية هي الخاسرة)
"في مثل هذه الأيام منذ عامين مضيا أذن الله أن يلقى الأستاذ المرشد عصا التسيار من دنيا الناس وأن يتفيأ في الملأ الأعلى مكانًا قدسيًّا في ظلٍّ من رحمةِ الله ورضوانه فاطمانت نفس طالما أزعجها القلق واستراح جسد شد ما أرهقته الحركة والاضطراب.

كذلك أصور لنفسي موتته رحمه الله كلما استبدَّ بي الألم وساورني الجزع وأخذ الشعور بالفجيعة يغشيني بمثل لفح الهجير من قمة رأسي إلى أخمص قدمي فلا يكاد ذهني يستوعب هذه الصورة حتى أجد برد العزاء ينساب في نفسي كما ينساب الماء المثلوج في أحشاء الصديان يلهبها الظمأ ويسعر نارها الهيام.

وكذلك أرجو للمؤمنين أن يصوروا لأنفسهم هذه الصورة كلما وجدوا لوعة الذكرى تغلي في قلوبهم مراجلها وتستعر في أحشائهم نيرانها، وإنهم لواجدون بها عزاءً مستنيرًا ومستبصرًا قائمًا على تقديرٍ منطقي خاصٍّ لا على مجرَّد أنَّ الموت قدرٌ لا حيلةَ فيه ولا سبيلَ إلى دفعه على نحو ما يُقال لكل من ذاق الموت من هذه المخلوقات.

لم يخسر الأستاذ البنا بموتته تلك شيئًا- أي شيء- هكذا يقول كل أحد، أو هكذا يجب أن يقول كل أحد، سواء المؤمن الذي يسمو بمعنى الجزاء حتى يلتمسه عند الخالق في خوالد الجنات، والكافر الذي يسف بمعنى الجزاء حتى يلتمسه عند المخلوقين في خلود الذكر واعتبار التاريخ.

لقد عاش الأستاذ حسن البنا لغاية آمن به إيماناً شغله عن كل ما يشغل الناس سواه شغله عن أهله وعن ولده وعن نفسه فلو أنه سُئل عن كل ساعة أنفقها في تفكير محرق، أو رحلة جاهدة، أو كتيبة مؤرقة، أو صلاة خاشعة.. ولو أنه سُئل عن مقدار التضحية التي بذلها في سبيل إيمانه هذا لاستطاع أن يقول ضحيت بمالي، وبولدي وراحتي ولم أقصر حياة الشظف والخشونة على نفسى حتى جاوزتها إلى كل ما لهم صلة بي، ثم أخيرًا ضحيت بنفسي.

ولو أنه سُئل عن الغاية التي تحراها من كل هذا العناء العالي لاستطاع أن يقول بارًا صادقًا: "لم أرد عرض الحياة الدنيا، وإنما أردتُ الله وابتغيتُ ثوابه العظيم، ومثل ذلك حق على الله أن يرضيه حتى يرضى وأن يفتح له أبواب جنته يتبوأ منها حيث يشاء إن شاء الله.

ولقد عاش الأستاذ البنا في الناس حبيبًا إلى قلوبِ أوليائه، مهيبًا في نفوس أعدائه، وكانت الكلمة تنطلق من فمه لتملأ الأسماع والقلوب والعقول فيجد فيها الولي بسمة الأمل ونشر الغبطة، ويجد فيها العدو بلبلة الفكر وشوك المضجع، ومن حقه رحمه الله وهو بهذا المحل الرفيع في أمته الإسلامية جمعاء أن يتحرك التاريخ مزهوًا ليروي سيرته بين مَن يروي سيرهم، ممَن قامت دعائم عظمتهم على الإيمان والإنتاج لا على الدعاية والتهريج.

لم يخسر الأستاذ إذن شيئًا بميتته تلك.. وإنما خسرت الإنسانية نعم خسرت الإنسانية ولا أقول خسر الإسلام.. فإن الإنسانية تتعرض في هذه الظروف لأشد محنة تعرضت لها في تاريخها الطويل، وهي محنة المادية الثقيلة التي تريد أن تظفر بالمعاني الروحية، لتعود الإنسانية كلها بعد ذلك حيوانية تتحرك في دفع الشهوات كما تتحرك الآلات في دفع البخار، وقد كان حسن البنا لسان الروحانية المبين، وكان حجتها الواضحة ودليلها الهادي، وكان قوتها المليئة حيوية ونشاطًا.. ولا نحب أن نستمرئ أحضان اليأس حتى نقول: لقد كان الأستاذ كل شيء وبموته انهار كل شيء.. فإنَّ رحمه الله بالناس أرحب من هذا وأوسع، ولئن مضى حسن البنا إلى ربه، لقد كان فيمن ترك من أبنائه مجتمعين القوة التي تكفل لهذه الدعوة أن تهدي وأن تنقذ إن شاء الله.

إنَّ خيرَ ما يحيى به المؤمنون ذكرى الأستاذ المرشد هو أن يجتمعوا على الحق، وأن يعاهدوا الله في صدق وإخلاص أن يكونوا أصحاب رسالة وأعلام خير ودعاة أخوة ورسل إسلام وسلام".. (مجلة الدعوة- 13 فبراير1951م).

4- الشيخ: علي حسب الله- أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم

"في صيف سنة 1927م دخلت مكتبة دار العلوم فوجدتُ الداعية المخلص إلى الله في دعواه الشيخ: محمد عبد العزيز الخولي رحمه الله ومعه شاب ممن تخرجوا ذلك العام في دار العلوم، وما كاد الشيخ يرد التحية حتى قال: تعال أسرع إن صاحبك هذا "حسن البنا" عُيِّن مدرسًا ببلدكم الإسماعيلية وهو غير مستريحٍ لهذا التعيين، فتحدثتُ إليهما حديث المعتز ببلده، وذكرتُ للزميل الكريم ما في طباع أهل تلك البلد من التودد إلى الوافد عليهم، وأنه سيجد فيهم أهلاً بأهل، وإخوانًا بإخوان، وقد صادف هذا الكلام هوًى في نفس الشهيد رحمه الله، ظهرت آثاره بعد سفره.

جاء الفقيد الإسماعيلية عقب نزاعٍ ديني انقسم فيه المسلمون قسمين:

قسم متمسك بالقديم على علاته، وآخر عاملٌ لإصلاح عقائد الناس وتطهيرها من أدران البدع والخرافات، وظهر الخلاف في مسائل فرعية كان كل فريق يتمنى أن يسمع من الداعية الجديد ما يؤيد وجهةِ نظره فيها، ولكن حسن البنا كانت غايته أسمى وأعمق من أن يُثير خلافًا أو ينصر فريقًا على آخر، كانت غايته أن يُؤلِّف بين القلوب بالمحبة ويوجهها إلى الله، ويعدها للتضحية في سبيل الحق، ويرى أن هذا كفيلٌ برفع أسباب النزاع، فإنَّ النفوس الطاهرة والقلوب الخالصة في منعةٍ من وساوس الشيطان وعوامل الفرقة والخذلان.

وقد كان له ما أراد بالنية الصادقة والإخلاص إلى الله، وإذا كان قد تقدمه من المصلحين في العصر الحديث من كان عمله نظريًّا يبدأ من أعلى أو من الوسط فإن حسن البنا رأى أن يبدأ من الأساس الذي بدأ به النبيون دعواتهم، وهو إصلاح العامة والفقراء، فلم يعتمد في بادئ أمره على المال ولا على الأغنياء، ولهذا كان يفضل في دعوته أن يغزو المجالس الشعبية العامة كالمقاهي، وشهدت الإسماعيلية بجهوده انقلابًا هامًّا، فإن ذلك الشباب الذي أعماه الجهل وأضله الفساد الشائع بين الناس، والذي يئس العقلاء من إصلاحه، انقلب شبابًا متدينًا متحمسًا للدين معتزًّا به، وقد فهم لأول مرة وبطريقة عملية أن الدين ليس عبادة في المحراب فقط، بل هو مع هذا عمل متواصل قوي لجمع الشمل وتآزر القوى وإعزاز الأمة، وإحلالها المحل اللائق بها، ومن الرعيل الأول أُلفت الجماعة "الإخوان المسلمون" التي كان أول شعار لها ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ وأسمى غايتها ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ثم نمت الشجرة وأينعت وآتت ولا تزال تُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فبارك الله فيها، ومتَّع غارسها برضوانه، وآنسه بالذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا". (مجلة الدعوة- عدد 105)


5- د. محمد يوسف موسى- الأستاذ بكلية أصول الدين داعية أول

"لا بد لكل رسالةٍ ما من دعاة يقومون بها، ومن داعية أول يعيش لها وبها، ولعل أهم ما يميز الداعية الأول بعد ذلك، عمله على كشف الأكفاء لمعاونته في تحقيق رسالته، وعلى كسبهم أنصارًا له واستبقائهم دائمًا بجانبه.

وقد كان صديقنا المغفور له الأستاذ حسن البنا "داعية" دينيًّا واجتماعيًّا من الطراز الأول، قد جمع الله تعالى له كل ما يجب لنجاح الدعوة، ولعل من أهم ذلك ما لمسته فيه من بصرة النافذ بمَن يصلحون للقيام معه بدعوته، ثم عمله على ضمهم إليه بكل قلوبهم وعقولهم ومواهبهم، عرفتُ ذلك منه بخاصة، حين رغب إلي وآخرين معي في أن نكون رفقاء له في رحلةٍ من القاهرة إلى الإسكندرية ثم رشيد بعد الحرب الماضية.

وأملنا قوي في أن تزداد الدعوة، دعوة الإخوان المسلمين، كل يوم قلوبًا وعقولاً جديدة، ولا سيما في الأيام التي تنتظر الأمة منهم الكثير، وتدعوهم إلى التقدم بما يرون من خططٍ ودراساتٍ ومشروعاتٍ للإصلاح". (مجلة الدعوة- عدد 105).


6- د. عبد العظيم المطعني: الأستاذ
بجامعة الأزهر حسن البنا ودعوة لن تموت

"لم يستطع الغرب أن يبتلع بلاد الشرق الإسلامي عن طريق الحروب الصليبية التي باءت بالفشل، ولم ينصرف الغرب عن التفكير في الشرق بعد فشل تلك الحروب، فحلت مساعي الاستعمار الحديث المسلحة محل تلك الحروب، وخرجت قوافل التبشير إلى ربوع آسيا ومجاهل أفريقيا يساندها تعصب حاقد على الإسلام والمسلمين، ووضعت الخطط السرية لصرف المسلمين عن دينهم ووضعت بإزائها الاعتمادات المالية السخية للإنفاق عليها حتى تبلغ مرادها، فأصبح الإسلام والمسلمون بين فكي كماشة: صراع عسكري يدك المعاقل ويحطم الحصون.. وصراع فكري ينتزع الإسلام من القلوب انتزاعًا أو يشوه صورته في نفوس بنيه؟!

وقد تعرَّض الشرق الإسلامي لأحداث عنيفة أطاحت بالكثير من معالم حضارته فحروب أو غزوات التتار والمغول التي انتهت بسقوط بغداد ثم الحروب الصليبية ثم تآمر دول أوروبا على دول الخلافة وإسدال الستار على سياسة الباب العالي "الرجل المريض" وتقسيم ميراثه بينهم، وتقسيم الأقطار الإسلامية إلى دويلات كل هذه أحداث حركت المشاعر وأيقظت الهمم في كل مكان، وقد انضم إليها سبب مشابه داخل الأقطار الإسلامية نفسها، وهو تخلف المسلمين وبُعدهم عن دينهم وتفككهم في وقتٍ كان ينبغي أن يكونوا على مستوى الأحداث المحيطة بهم لمقاومتها ورأب ما أحدثته وتحدثه من صدوع؟!

وكان من رد الفعل أن ظهرت حركات الإصلاح في مواقع متعددة من البلاد الإسلامية، قامت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعروفة بالحركة الوهابية، وكانت ثورةً على البدع المستحدثة في الدين ومحاولة لتنقية الدين مما علق به من شوائب، وكان مسرحها شبه الجزيرة العربية وقامت الثورة المهدية في جنوب وادي النيل، وكانت تهدف إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي في إطار التوجيهات الدينية التي حاول الاستعمار طمسها وتشويهها.

وفي شمال غرب أفريقيا قامت الحركة "السنوسية" لكنها كانت ترتكز على التربية الروحية والنزعة الصوفية أكثر من اهتمامها بمشكلات الحياة.

وقام الشيخ جمال الدين الأفغاني بدعوته المعروفة حول إنشاء الجامعة الإسلامية، ولكن مطلبه كان عزيز المنال؛ لأنه مطلب سياسي يقل من يستجيب له من السادة الكبار.

والتف حول هؤلاء تلاميذ لهم اتجهوا إلى المنهج الأكاديمي في الدعوة، وظلت قطاعات الشباب في كل مكان تنتظر مَن ينفث فيها روح القوة، ويلمس بتوجيهه شغاف قلوبهم، وقد ادخرت العناية الإلهية لهذه المهمة الجليلة الإمام الشيخ حسن البنا الذي أصبح شعلة لم تنطفئ رغم محاولات الحاقدين من عملاء الاستعمار وأعداء الإسلام محليين ومستوردين.

شاب يدعو الشباب إلى الإسلام:

بدأ الإمام الشهيد دعوة الشباب إلى التمسك بالدين في وقتٍ مبكرٍ من عمره إذ كان في الثانية والعشرين منه بعد تخرجه في دار العلوم بعام واحد، وشاب في هذه السن المبكرة يضطلع بهذه المهمة الجليلة، فهو شاب نشأ في طاعة ربه وعبادته ولم تعرف حياته "الباكرة" لهو الشباب وعبثهم، وإلا بدأ دعوته في مرحلة متأخرة قطعًا.

اتجه الإمام الشهيد- إذن- إلى إصلاح عقيدة الشباب وفكره فأنشأ أول دار للإخوان المسلمين بالإسماعيلية فكانت القطرة التي انهمر منها الغيث وعم القمم والسهول، وباشر دعوته بعقل ناضج وأسلوب واضح.

منذ عام 1928م، كانت دعوته من أول عهدها شعبية فيمم الشباب وجوههم شطرها، وسرعان ما خرجت من مدينة الإسماعيلية إلى كل أنحاء العالم ثم انتقلت إلى الأقطار الإسلامية والعربية في سرعة البرق ورقة النسيم.

وقد وهب الله الإمام الشهيد البيان الواضح والأسلوب الحكيم إلى ما عمرت به شخصيته من أدب النفس واستقامة السلوك وفقهه بمقاصد الإسلام، وحفظه للقرآن الكريم والوقوف على أسراره ومعانيه، وروايته للحديث، وإلمامه بعبر التاريخ وفهمه لسيرة أصحاب الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ومعرفته بمواطن الضعف في الأمة، وبهذا قد استكمل الإمام الشهيد كل مقومات الداعية المؤثر، والمصلح المطاع كان يعرف إلام يدعو؟ وكيف يدعو؟ ومن يدعو؟ ومتى يدعو؟ بقلب شجاع وسلوك طيب، ولسان فصيح، وحجة ساطعة، فلا غرابةَ أن يلتفت الشباب كله في عزمٍ وثباتٍ حول ذلك المصلح المخلص إلام كان يدعو الإمام الشهيد؟

كان الإمام متبعًا وليس مبتدعًا، والاتباع هو منهج كل مصلح صادق، أما الابتداع فإنه مسلك كل دجال كاذب، كان الإمام متبعًا ولأنه اتخذ من التمسك بالدين طريقًا للإصلاح، وفي هذا يقول "دعوتنا إسلامية بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ فافهم ما شئت، وأنت في فهمك هذا مقيد بكتاب الله وسنة رسوله، وسيرة السلف الصالحين من المسلمين، فأما كتاب الله فهو أساس الإسلام ودعامته، وأما سنة رسوله فهي مبينة الكتاب وشارحته، وأما سيرة السلف الصالح فهم رضوان الله عليهم منفذو أوامره، وهم الصورة الماثلة والعملية لهذه الأوامر والتعاليم، وكان هدف الإمام من تلك الدعوة أن يُعيد الشباب المسلم إلى الإسلام الصحيح بجلاء مفاهيمه، وإيضاح مراميه، فالإسلام منهج حياة بكل ما تتسع له كلمة "الحياة" من معانٍ فهو عقيدة وشريعة، ودنيا وآخرة، بيان وفكر وجهاد ونضال قد وسَّع النشاط البشري كله، لكل مسألةٍ فيه حكم وتوجيه، ولكل مشكلةٍ حل، هو مع المسلم أينما حلَّ في صحوه ونومه، في معلمه ومصنعه، وفي محرابه ومصلاه، في أكله وشربه، هو معه في كل شئونه، وكل محاولة للإصلاح لم تتخذ من إسلام زادها وعدتها باءت بالفشل، ولا سبيلَ لإصلاح شئوننا إلا بالعودة للإسلام"، ولهذا فإنه يطالب بالخطوات الآتية:


1- إصلاح القوانين: وهذا يكون بموافقة القوانين لأصول الفقه الإسلامي.

2- إصلاح مظاهر الاجتماع: وهذا يكون بموافقة السلوك لمبادئ الدين الحنيف.

3- محاربة الإباحية: وهي تتحقق بقمع الشهوات والتحلي بالفضائل.

4- تنظيم التعليم: بحيث يهدف التعليم إلى حماية العقيدة واستقامة الخلق.

5- المؤاخاة بين المسلمين: بحيث يكون المسلمون رجلاً واحدًا وقلبًا واحدًا ويدًا واحدةً، وكونوا عباد الله إخوانًا.
قيمة هذه الدعوة
جاءت دعوة الأستاد الإمام رد فعل هام للأحداث الخطيرة التي تجمعت آثارها في مطلع العشرين، فقد نشطت الأصوات التي كانت تنادي بترك الحجاب وتدعو إلى سفور المرأة، ونشطت الأقلام التي كانت تدعو إلى القضاء على اللغة العربية الفصحى لتحل العامية محلها، بل وتطالب بأن تكون الكتابة بالحروف اللاتينية لتحل محل الحروف العربية، وأخذ مَن يسمون أنفسهم "أنصار المرأة" ينادون بالاختلاط بين الرجال والنساء في كل مكانٍ بحجة تحرير المرأة كما فعلت المرأة الأوروبية وتعرضت مبادئ الإسلام نفسه للإهمال فترك العمل بكتاب الله وشريعته في الحكم ودور القضاء والنيابة، وحلَّت محلها القوانين الوضعية، وصار الربا مصدرًا من مصادر الكسب لدى الجماعات والأفراد، ونشط عملاء الاستعمار في توجيه الطعنات للإسلام في الصميم، فقبيل قيام الأستاذ الإمام بدعوته الشجاعة بعامين أصدر الدكتور طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، وقد طعن في صدق القرآن الكريم، وقال إنَّ وُرود قصة إبراهيم وإسماعيل في القرآن ليس بدليلٍ كافٍ على وجودهما التاريخي، كما شبَّه القرآن بقصائد أمية ابن أبي الصلت الشاعر الجاهلي وبرئ الدكتور طه حسين في مقدمةِ كتابه ذلك من دينه وعقيدته، وأخذ يُدرِّس تلك السموم التي احتوى عليها كتابه للشباب في الجامعة المصرية الناشئة.

هذه النزعات الخطيرة لو لم تقم في وجهها دعوةٌ صلبةٌ تؤمن بالحقِّ وتذود عنه، وقد تمثلت تلك الدعوة في جهود الإمام الشهيد لانتزعت الإيمان من قلوبِ الناس انتزاعًا وخاصةً الشباب، ومن هنا تكتسب دعوة الإمام البنا قيمتها.

ولم يأبه أنصارها مما أصابهم في سبيلها من أذى، والتاريخ على هذا خير شاهد، قيام بالحق، وذود عن الدين وحراسة لقيمه في إباء وشمم، وما زالت دعوته تؤتي ثمارها- ولا تزال حتى ينصر الله حزبه وجنده وجند الله هم الغالبون.

سر بقائها واستمرارها:
تجاوزت دعوة الإمام البنا الخمسين عامًا تعمل بجدٍّ وإخلاصٍ لنصرةِ الإسلام عقيدةً وشريعة، وهي قوة وصلابة لم يلحقها تغيير ولا تبديل في مبادئها الأصيلة التي عُرفت بها من إنشائها، ولم يزهد أنصارها فيها أنهم تعرضوا لضربات غاشمة ثلاث كرات استشهادًا واعتقالاً وسجنًا واضطهادًا وتعذيبًا ورميًا لهم بالإرهاب والوحشية، بل إنهم كانوا يخرجون من كل محنةٍ وهم أصلب عودًا وأثبت قدمًا، حتى أصبحت حركة الإخوان أكبر حركة إسلامية في العصر الحديث وأبقي أثرًا فهل لذلك ولهذا السبب؟ نعم:

أما ثباتها واستمرارها فلأنها دعوة قامت على الحقِّ والحق ثابت لا يتغير، فمبادئ الإسلام هي هي منذ أقرها عليه الصلاة والسلام، وكل دعوة تعتمد على مبادئ الإسلام لا ينالها تغييرٌ ولا تبديل، أما النظم الأخرى عُرضة للخطأ، ولهذا فإنَّ الخمسين عامًا هذه قد تبدَّلت فيها أحوالٌ وتغيرت.. فكم من المذاهب قامت ثم سقطت وحلَّت محلها اتجاهات أخرى مرات ومرات في كلِّ بلدٍ من بلدان العالم المعاصر، بل إنَّ مصر نفسها- موطن الدعوة قد مرَّت بكثيرٍ من التجارب الفكرية والسياسية خلال هذه المدة، ويقرر اليوم منهج ثم يأتي الغد فيلغي ويبحث عن بديل له، بل إنَّ عهد الثورة المصرية الأخيرة قد عرف حتى اليوم اتجاهات عدة وما زلنا نرى سلوكًا يحل محل سلوك، نستقبل الجديد بالثناء والأمل ونودع القديم بالذم ونرميه بالقصور.

وأما التفاف الشباب حولها في عزمٍ وثبات فيفسره لنا العلامة ابن خلدون في مقدمته؛ حيث يقول إن العرب لا يجتمعون إلا حول قيادة دينية ولا ينتصرون إلا بقيادةٍ دينية، وقد صدق التاريخ هذه القاعدة فقبائل العرب المتفرقة المتناحرة صنع منها الإسلام بقيادة محمد- صلى الله عليه وسلم- خير أمة أخرجت للناس دكت عروش كسرى فارس وقيصر الروم وملأت الأرض عدلاً ونورًا، وصلاح الدين الأيوبي حينما تمسك بالإسلام وحَّد صفوف العرب والمسلمين جميعًا، فكانت كل المنابر في العالم الإسلامي تدعو له مخلصةً بالنصر، ويؤمن المصلون في صوتٍ هادر قائلين آمين.

ذلك هو الطريق فهل نحن سالكوه؟.. ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ "صدق الله العظيم".







7 -فضيلة الداعية الشيخ: محمد الغزالي يتحدث
عن الإمام البنا

[ أ ] القائد المربي

[ ب ] غصن باسق في شجرة الخلود

[ ج ] في ذكرى مجدد القرن الرابع عشر

[ د ] مقدمة كتاب.. دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين

[ أ ] القائد المربي:



"كان حسن البنا- حيث حل- يترك وراءه أثرًا صالحًا، وما لقيه امرؤ في نفسه استعداد لقبول الخير إلا وأفاد منه، ما يزيده صلة بربه، وفقهًا في دينه، وشعورًا يتبعه نحو الإسلام والمسلمين، والرجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضًا غدقًا، فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألق وينير.

إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها، وقد كان حسن البنا في أفقه الداني البعيد، من هذا الطراز الهادي بطبيعته لأن جوهر نفسه لا يتوقف عن الإشعاع.

سل الألوف المؤلفة التي التقت به.. أو التي أشرقت عليها الرجل في مداره العتيد، ما من أحد منهم إلا وفي حياته ومشاعره وأفكاره أثر من توجيهات حسن البنا، أثر يعتز به ويغالي بقيمته ويعتبره أثمن ما أحرزه في دنياه.

التقيت بالإمام الشهيد لأول مرة وأنا طالب في معهد الإسكندرية، وكنت شابًا تجتذبني دواعي التقى والعفاف، وتناوشني مفاتن الحضارة الوافدة من وراء البحار، فكانت الغرائز المستثارة تدخل في مضطرب مائج مع إيحاء الإيمان الموروث، واتجاهات الدراسة التي نتلقاها في علوم الدين... ونحن جيل مخضرم تلتقي في حياتنا تيارات متعارضة، وما كان يعلم إلا الله ما يجول في قلوبنا وألبابنا من أسى وتعقيد.

وقد أورثتني معاناتي السابقة لهذه الأحوال تقديرًا لمشاكل الشباب، ورقة شديدة لما يمرون به من أطوار، ثم أدركت أن الوعظ المجرد والتعليم العابر لا يجديان كثيرًا، وعندما استمعت إلى حسن البنا لأول لقاء تكشفت لي أمور كثيرة لا بد منها في صحة إبلاغ الرسالة وإمكان النفع الكامل بها.

ليس الداعية إلى الله، أداة ناقلة، كالآلة التي تحمل سلعةً ما من مكان إلى مكان، وليست وظيفته أن ينقل النصوص من الكتاب والسنة إلى آذان الناس، ثم تنتهي بعد ذلك مهمته.
كانت لدى حسن البنا ثروة طائلة من علم النفس، وفن التربية، وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد، وميزان المواهب... وهذه بعض الوسائل التي تعين على العودة وليست كلها.

والوسيلة التي تعتبر طليعة غيرها، ولا تؤتي الدعوة إلى الله ثمارها كاملة إذا لم تتوافر لها، هي إلهام الله للداعية أن يتخير موضوعه المناسب، وأن يصوغه في الأسلوب الذي يلقى هوى في أفئدة السامعين، ويترك أثره المنشود في نفوسهم وأفكارهم.

إن القذيفة قد تنطلق، كاملة العناصر، تامة القوة، ولكنها تقع بعيدة عن مرماها، فتذهب هدرًا، وما أكثر الخطباء الذين يرسلون من أفواههم حكمًا بالغة تنطلق هنا وهناك، كما ينطلق الرصاص الطائش، لا يصيب هدفًا ولا يدرك غرضًا.

وحسن البنا كان موفقًا في اصطياد الرجال، وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها، وذلك أمر يرجع إلى المهارة الخاصة، ولاقتياد الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع يمكن أن يقال فيه: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾..

وقد سمعت بعض تلامذة الإمام البنا يرددون المعاني نفسها التي كانت تجري على لسان الرجل ويستحيل أن تجد في كلامهم عوجًا، ومع ذلك فإن الفتح بها محدود، إن السماء وحدها هي التي تضع للإنسان القبول في الأرض، وقد كان حسن البنا ملاحظًا بعناية الله من هذه الناحية الهامة. ويوجد في العالم الإسلامي رجال في مثل علم الإمام الشهيد، وربما كان لهم قلمه وأداؤه، ولكن التوفيق الذي صاحب دعوة حسن البنا، والنجاح الباهر الذي صادفه لم يلقه غيره مع تشابه الأداة:

إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع

وقد بدأ حسن البنا يربي الجيل الجديد للإسلام على الأساس الذي وضعه للنهوض به، إنه يريد تكوين دولة إسلامية، وإقامة حكم شرعي رشيد، فسلك إلى هذه الغاية الطريق الوحيد الذي ينتهي بها وإن طال المدى، وتراخت الأيام، وكثرت التكاليف... طريق التربية الإسلامية.

وكان الساسة في ميدانهم قد هجروا القرآن، فما تدور على ألسنتهم آياته، وما تعرف في أعمالهم توجيهاته، فإذا بهم يسمعون في ميدان السياسة واعظًا يقرأ القرآن ويستهدي بمنار السنة، وكان الطيبون من أهل الخير قد نسوا في العزلة التي رمتهم الحضارة الغربية فيها، أن للإسلام شريعةً تحكم، ودولةً تسود.. فإذا بهم يسمعون في الصوامع والمساجد رجلاً يحدثهم عن سياسة الدنيا باسم الله و يسوق حشدًا من النصوص الحاسمة تدفع الصالحين إلى إصلاح ما فسد حولهم من شئون الأمة ومراسيم الدولة.

وحسن البنا يعلم أن المسلمين هزموا في مواقع شتى، كسرت شوكتهم في القرن الأخير، ومكنت الغرب الكافر من ملاحقتهم في عقر دارهم بالإهانة والتسخير.

وعرف الرجل أسباب الهزيمة معرفةً دقيقةً، إن النفوس قد تحللت بالمعاصي، والجماعة قد انحلت بالإسراف، والدولة قد تهدمت بحب الدنيا وكراهية الموت... ومن ثم انتصر الكافرون، فيجب أن تقوم النفوس بالطاعة، وأن يحارب الإسراف والترف بالاقتصاد والاجتهاد... وأن تعلم الأمة الإقبال على المخاطر لتسلم لها الحياة، وأن يتم ذلك كله على دعامة موطدة من قوة الصلة بالله تشق الحناجر بهذا الدعاء ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ومن ثم ينتصر المؤمنون.

وقد حار أصدقاء حسن البنا وأعداؤه في فهم هذه السياسة الجديدة الجديدة، وتضاحك أهل الدين وأهل الدنيا ممن يبني الانتصار على الاستغفار.. وحق لهم أن يضحكوا ساخرين.

أما الماديون من أهل الدنيا فهم يحسبون ذلك دجلاً لا طائل تحته.. وأما غيرهم فقد وقر في نفوسهم أن اللجوء إلى الله لا يكون إلا قرين العجز، وأثر السلبية المطلقة في علاج الأمور، وقلما يسأل أحدهم ربه إلا وهو محصور محسور.

إن هؤلاء يحسبون الإنسانية مع خالقها كالابن العاق مع أبيه الغني لا يرجع إليه إلا مضطرًا، عندما تفرغ يداه من النقود، ولو فقهوا الآية السابقة: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا.......﴾ لعرفوا أن قائليها كانوا صفًا مناضلاً في حومة الوغى تصرع من حولهم رسل الحق انتصارًا للحق وتفانيًا في حمايته، ومع شدة ما يلقون- في ذات الله- من محن يثبتون ويؤدون واجبهم على خير الوجوه: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾.

على هذه الصخرة من علاقة الفرد بربه، علاقة إنتاج وإقبال واستغفار، لا علاقة كسل وإدبار وانهيار، كان البَنَّاءُ حسن يجمع اللبنات الجديدة لإعادة ما انهدم من أركان الحكم الإسلامي النظيف.

وما صدق الناس سلامة هذا الاتجاه في التربية، حتى شهدت بادية الشام وشطآن القناة أحفاد خالد وأبي عبيدة وابن العوام وابن الصامت، صورًا متشابهة تتكرر بها معجزة رسول الله في الآخرين كما بدأت في الأولين.

منذ أيام مشيت في جنازة الشهيد عمر شاهين، ثم سبحت بي الذكريات إلى أيامنا الماضية وارتسمت أمام عيني صورة الإمام الشهيد حسن البنا، فقلت لنفسي: إن الذي علم هذا الشاب كيف يستشهد في سبيل الله هو حسن البنا، وقد سبقهم الرجل في سلوك الطريق التي رسمها فما كذبهم، ولا كذبوه، وأعدت النظر إلى الشباب الناصع الجبين من حول الجنازة المتهاوية إلى الجنة ثم تلوت قول الله: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. [مجلة الدعوة: 16 جمادى أول سنة 1371هـ].

[ب] غصن باسق في شجرة الخلود:


"في وحشة الليل وسورة الغدر ويقظة الجريمة، كان الباطل بما طبع عليه من غرور، وما جُبِل عليه من قسوة، وما مرد عليه من لؤم، كان مستخفيًا ينساب في أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه، ويبث عيونه، ويسوق أذنابه مع الكبار والصغار ويعد عدته لكي يغتال حسن البنا.. مرشد الإخوان المسلمين.

وليس قتل الصديقين والصالحين في هذه الدنيا بأمر صعب!

إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديمًا علي أنبياء الله، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة، أفكثير على من تلقوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد؟

بلى ومن طلب عظيمًا خاطر بعظيمته، ومن هوان الدنيا على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع مع المترفين، وأن ترك حملة الوحي فيها يهونون... مع الوحي
لا بأس.

سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلاً يقول: اللهم آتني أفضل ما أتيته عبادك الصالحين!! فقال: "أذن يعقر جوادك ويراق دمك.." حتى الجواد يقتل مع صاحبه... لقد أصابه من الشهادة مسها القاني، ولو كان مربوطًا بعربة بضاعة لعاش دهرًا.

وكذلك أبى ربك أن يسترجع إليه المختارين من عباده- بعد ما أدوا رسالتهم في الحياة- وهم وافرون آمنون، نعم.. أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة، وجراحاتها الغادرة، فمزق علج من المجوس أحشاء عمر، وعدا مأفون غر على حياة علي، وقتل يزيد الماجن سبط الرسول الحسين، وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا، ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقةً حلقةً ما بقي في الدنيا صراع بين الضياء والظلام.

عفاء على دار رحلت لغيرها
فليس بها للصالحين معرج

كدأب علي في المواطن قبله
أبي حسن والغصن من حيث يخرج

لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أهون شيء في ناظريه، ماذا خرقت الرصاصة الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدًا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود، خرقت جسدًا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصي البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفًا في ساحة الإسلام! لقد عاد القرآن غضًا طريًّا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبًّا للإسلام واستمساكًا به
وعرفت "أوروبا" البغي أي خطر على بقائها في الشرق إذا بقي هذا الرجل الجليل، فأوحت إلى زبانيتها.. فإذا الإخوان في المعتقلات، وإذا إمامهم شهيد مضرج في دمه الزكي!

ماذا خرقت الرصاصة من جسد هذا الرجل؟ خرقت العفاف الأبي المستكبر على الشهوات، المستعلي على نزوات الشباب الجامحة.

لقد عاش على ظهر هذه الأرض أربعين عامًا لم يبت في فراشه الوثير منها إلا ليالي معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة، والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، في عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار، ومن ورائه التعصب الصليبي، والعدوان الصهيوني، والسيل الأحمر! فكان حسن البنا العملاق الذي ناوش أولئك جميعًا حتى أقض مضاجعهم، وهدد في هذه الديار أمانيهم.

لقد عرفت التجرد للمبدأ في حياة هذا الرجل، وعرفت التمسك به إلى الرمق الأخير في مماته، وعرفت خسة الغدر يوم قدم رفات الشهيد هديه للمترفين والناعمين، كما قدم- من قبل- دم علي مهرًا لامرأة.

عجبًا لهذه الدنيا وتبًّا لكبرائها، ووارحمتاه لضحايا الإيمان في كل عصر ومصر! أكذلك يقتل الراشد المرشد؟؟

ودعا أيها الحفيان ذاك الشخص
إن الوداع أيسر زاد

واغسلاه بالدمع إن كان طهرًا
وادفناه بين الحشا والفؤاد

وخذا الأكفان من ورق المصحف
كبرًا عن أنفس الأبراد

أسف غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلى غناء اجتهاد".


[ج] في ذكرى مجدد القرن الرابع عشر:


"من ثلث قرن اغتالت القوى المعادية للإسلام حسن البنا، فهل كان ذلك الاغتيال الفاجر عملاً مرتجلاً أو نزوةً عابرةً؟ لقد ثار الاستعمار العالمي من الرجل الذي أحبط مؤامراته، وأبطل خططه، واستطاع أن ينقذ دينا ويبقي أمةً ويحفظ تراثًا كادت تتخطفه الذئاب!

نعم.. كان أمل الاستعمار قويًّا بعد ما أسقط الخلافة واحتل أرض الإسلام شرقًا وغربًا أن ينشئ أجيالاً كافرةً بربها متنكرةً لدينها متبرئة من قرآنها وسنة نبيها، وقد أحرز بعض النجاح، وأعانه على جريمته سماسرة رسميون وشعبيون.

بيد أن فوجئ برجل ينفخ من روحه اليقين والإخلاص، ويأسو بيده الفتوق والجراح، ويلم الشمل المبعثر، ويتنقل بين القرى والمدائن في الوادي، ينقل الشعاع وهو يصنع على الأرض النهار! فإذا- الإيمان المخدر يصحو، وإذا الجهاد القديم يزأر، يحطم القيود ويكبر الله وحده.

إن كل ما دبره الاستعمار والاستشراق والتبشير وكل ما تركته أيام الاضمحلال والفرقة والشتات، إن ذلك كله احترق في هدير حسن البنا باسم الله، وفي كفاحه الرهيب لإعلاء راية الحق كون حسن البنا جيشًا من الدعاة والساسة والقادة.

كان الرجل الفذ كتلةً من الذكاء والبيان والفقه والنفاذ إلى ما ينبغي، كان لا بد أن يقتله أعداء الإسلام ليصفو لهم الجو ويمضي سحرهم فلا تعترضه عصا موسى، كان لا بد من ضرب هذا العملاق الذي رد إلى المسلمين ثقتهم بدينهم وتاريخهم وأنفسهم، وعرفهم من هم؟ وماذا يحملون؟.

قلت وأنا اشرح المبادئ العشرين التي وضعها حسن البنا لجمع كلمة الأمة والذي أصفه ويصفه معي كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة.. فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف القائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء بيدٍ آسيةٍ، وعين لماحة فلا تدع سببًا لضعف أو خمول.

وعملي كان تأصيل هذه المبادئ وشرحها على ضوء تجاربي المستفادة خلال أربعين عامًا في ميدان الدعوة قضيت بعضها مع الإمام الشهيد، وبعضها مع الرجال الذين رباهم، وبعضًا آخر مع مؤمنين مخلصين حفظوا دينهم وجاهدوا في سبيله وقاوموا ببأس شديد جميع القوى التي أغارت عليه وحاولت إطفاء نوره وتنكيس رايته.

الظروف لم تتغير:

إن الظروف التي بدأ فيها حسن البنا دعوته ما تزال قائمة مع خلاف طفيف حينًا وكثيف حينًا آخر، وهذه الظروف تنشأ من منبعين رئيسيين:

الاستعمار العالمي الذي اكتسح بتفوقه المدني والعسكري كل شبر من أرض الإسلام وحاول أن يغير معالمها جملةً وتفصيلاً لمصالحه الخاصة.

والمنبع الآخر هو الأخطر والأخبث يجيء من الأدواء التي انتشرت في الكيان الإسلامي نفسه نتيجة فساد عام في أحواله المادية والأدبية والعلمية والعملية الفردية والاجتماعية والتربوية والسياسية، والواقع أن الاستعمار العالمي انحدر إلى أقطار فقدت القدرة على الحياة الصحيحة واسترق جماهير كان نسبها إلى دينها أبعد شيء عن الصدق، وقطع أوصالاً كانت ميتةً أو شبهَ ميتةٍ.

كان قلب العالم الإسلامي مذهولاً أو مشلولاً والأمريكان يشنون حرب إبادة على مسلمي الفلبين ثم أطبق الظلام على أرضه جمعاء واستفاقت عناصر المقاومة بعد ما فقدت الأمة الكبيرة كل شيء تقريبًا، وتوزعت جهود المقاومين على جبهات عديدة مضنية كان ذلك في مبدأ القرن الرابع عشر وأوسطه، ولا ريب أن الأحلاف العانين كانوا يحصدون ثمرات انحراف قديم، وإسفاف غبرت عليه أيام كالحة.

ومن الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل لقد سبقه في المشرق العربي والمغرب العربي وأعماق الهند وإندونيسيا رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية وأبلوا بلاء حسنًا في خدمة دينهم وأمتهم، وليس يضيرهم أبدًا أنهم انهزموا فقد أدوا واجبهم لله، وأتم من بعدهم بقية الشوط الذي هلكوا دونه.

استفاد حسن البنا من الذين سبقوه، إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين، كان نديمًا لتلاوة القرآن الكريم يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله مقدرة على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب، وهو لم يحمل عنوان التصوف بل لقد أبعد من طريقة كانت تنتمي إليها بيئته، ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي، وقد درس السنة المطهرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف، ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد وإفادته منها فقد أبى التورط فيما تورط فيه، ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع محاذرة لبقة من أسباب الخلاف ومظاهر الغضب، وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.

ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصامت يتنقل في مدن مصر وقراها وأظنه دخل ثلاثة آلاف من القرى الأربعة آلاف التي تكون القطر كله.. وخلال عشرين عامًا تقريبًا صنع الجماعة التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد ثم تحركت أمريكا وانجلترا وفرنسا وأرسلت سفراءها إلى حكومة الملك فاروق طالبين حل جماعة الإخوان المسلمين، وحُلت الجماعة، وقتل إمامها الشاب الذي بلغ اثنتين وأربعين سنة من العمر، وحملته أكف النساء مع والده الشيخ الثاكل إلى مثواه الأخير، فإن الشرطة كانت تطاردنا- نحن المشيعين- حتى لا نقترب من مسجد (قيسون) الذي بدأت منه الجنازة!
وتحدثت مع ولده سيف الإسلام حديثًا لم أنسه!! كان الابن المفزع مغيظًا لأن الجسد قطع لحمًا لحمًا فما تنتظم القطع بعضها إلى بعض إلا بالشاش ثم بالكفن ولولا ذلك لتبعثرت، تذكرت قول الشماخ يرثي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقد طعنه علج طعنه مزقت أمعاءه وجعلت الدم يخرج ممزوجًا بالطعام:

جزى الله خيرًا من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق

من ملامح الحاضر:

ولست في موطن رثاء للإمام الشهيد ولا تأريخ حياته، إنني هنا أعرض المبادئ التي كان يجمع الناس عليها والأسلوب الناجح الذي أحدث به يقظةً إسلاميةً عظيمةً فإن الظروف التي بدأ فيها جهاده لا تزال قائمةً لم يتغير منها إلا الشكل، الاستعمار السياسي هو هو وإن اتخذ ضغطه أسلوب غير مباشر، وما دام الختل واللف يغنيان فلا معني للمصارحة وما تستتبعه من إثارة!

والاستعمار الثقافي دائب على سرقة القلوب والقيم واجتياح العقائد والشرائع وحيله كثرت وتشبعت حتى بات يخاف على الأجيال المقبلة.

واضمحلال العقل الإسلامي واضح في أغلب ميادين الفقه، وعدد كبير من المشتغلين بفقه العبادات أو المعاملات يحسن النقل التقليدي أكثر مما يحسن الوعي والاجتهاد ويغلب عليه ضيق الأفق ولزوم ما لا يلزم!!

أما الفشل في شئون الدنيا فأمره مخجل حتى أن ما نأكله من طعام أو ما نأخذه من دواء أو ما نرتديه من لباس يصنعه لنا غيرنا وأما صناعات السلاح وما يحمي الشرف ويصون الإيمان فشيء لا ناقة لنا فيه ولا جمل كما يقول العرب الأقدمون.

لقد بدأ حسن البنا عمله منذ الصغر وشرع دون ضجيج يحيي الإسلام المستكن في القلوب ويوجهه للعمل، ويكفي الإمام شرفًا أنه صانع الشباب الذين نسفوا معسكرات الإنجليز على ضفاف القناة وما زالوا بهم حتى أغروهم بالرحيل.

ويكفيه شرفًا أنه صانع الشباب الذين ما اشتبكوا مع اليهود في حرب إلا ألحقوا بهم الهزيمة وأجبروهم على الهرب.

لقد بدأت العمل مع حسن البنا وأنا طالب في الأزهر من خمس وأربعين سنة تقريبًا، والحالة العامة يومئذ جديرة بالتسجيل: الحكم منفصل عن العلم وهو انفصال مبكر في تاريخنا للأسف كما أشرت إلى ذلك في بعض كتبي، والتعليم قسمان: مدني وديني، وهو عمل استعماري بارع لضرب الدين والدنيا معًا، والتعليم الديني منقسم على نفسه فالفقهاء شيء والمتصوفة شيء آخر، والمتصوفون فرق لها رايات وشارات مختلفة، والفقهاء توزعوا على المذاهب الأربعة ويرفض أحدهم الصلاة وراء الآخر إلا مضطرًا ثم نشب خلاف زاد الطين بلة بين هؤلاء جميعًا وبين أهل الحديث، ودخلت الوهابية المعركة باسم أنصار السنة فاستمرت الحرب بينها وبين هذه وتلك، وولدت الأحزاب السياسية بعيدةً عن الدين جاعلة الوطنية شعارها وانقسمت هذه الأحزاب بين ضالع مع القصر الملكي ومؤيد للتيار الشعبي، ثم تسللت الشيوعية مستغلة الفقر السائد وعارضة ما لديها من فنون الإغراء، وظهر مستغلون في المجال السياسي وآخرون يقصرون نشاطهم على العمل الاجتماعي وحدهً.

وسط هذا البلاء والتمزق الشامل كان حسن البنا يدعو إلى الإسلام دينًا ودولة ويتخلص بلباقة من الآثار الموروثة والأهواء الوافدة، كان يحارب التقاليد الغبية بنفس العزم الذي يحارب به الغزو الفكري، وأشهد أنه مَحَقَ ذاته في مرضاة الله وبذل النصح للعامة والخاصة، وكان يضن بالدقيقة من يومه أن تضيع في غير مصلحة الإسلام والمسلمين.

رحم الله إمامنا الشهيد وثبتنا على طريقه حتى نلقى الله".

[د] مقدمة كتاب.. دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين::


قال الشيخ: "ملهم هذا الكتاب وصاحب موضوعه: الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه ويصفه معي كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة، فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء، بيدٍ آسيةٍ، وعين لماحة فلا تدع سببًا لضعف أو خمول.

ومن الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة في هذا القرن الذليل، لقد سبقه في الشرق العربي، والمغرب العربي، وأعماق الهند وإندونيسيا، وغيرها، رجال اشتبكوا مع الأعداء في ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاءً حسنًا في خدمة دينهم وأمتهم.

وليس يضيرهم أبدًا أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله، وأتم من بعدهم بقية الشوط الذي هلكوا دونه.

إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرين.

كان مدمنًا لتلاوة القرآن يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرة ملحوظة على فهم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.
وهو لم يحمل عنوان التصوف، بل لقد أبعد من طريقة كانت تنتمي إليها بيئته.

ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يذكر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.

وقد درس السنة المطهرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف.

ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورط فيما تورط فيه. "يقصد: تصديه بعنف للحملة على الأزهر وعلمائه المقلدين للمذاهب، وعلى الطرق الصوفية وغيرهم فوافق الشيخ البنا الشيخ رشيد في فكره وخالفه في أسلوبه وطريقته.

ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع لبقة من أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.

وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده.
ثم في صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف من القرى الأربعة آلاف التي تكون القطر كله.

وخلال عشرين عامًا تقريبًا صنع الجماهير التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد".

8-الأستاذ الشيخ: البهي الخولي صاحب كتاب "تذكرة
الدعاة" يتحدث عن حسن البنا فكرة تحيا في رجل::


"طيف من النور ألم بهذه الدنيا إلمام الغريب الطارئ أو الضيف العابر، ثم تركها ومضى، هذه هي قصة حسن البنا... ماذا يأخذ الطيف من الدنيا، أو ماذا يجمع لنفسه منها؟ لا شيء، وماذا يترك الطيف في هذه الدنيا حين يلم بها قديسًا من عالم القدسي، نورانيًّا من عالم النور؟، إنه يترك كل شيء حين يترك للضمائر نورها، وللنفوس قدسها وطهرها!!.. وهكذا كان حسن البنا، لم يأخذ لنفسه شيئًا وقد ترك للناس كل شيء!!.

هبط حسن البنا هذه الدنيا وموجة المادية تطغى حول الناس وقلوبهم ونفوسهم مادية الفكر والعاطفة، والشهوة، ولقد قضينا نحن شطرًا من شبابنا في هذه الموجة، فكنا نظن فضائل الإسلام ومثله العليا، أمورًا نظرية لا شأن لها بواقع الحياة، كل حظ الناس منها، ترديد عباراتها إن رددوها، كما تردد عبارات الشعر والأدب الجميل.

كان الناس يحيون في غمار الموجة المادية، حين قام حسن البنا في إشراق هالة أخرى لها مبادئها ومثلها العليا، هالة الفكر الإسلامية، يحيا فيها بقلبه ويحيا فيها بعقله، ويحيا فيها بنفسه، ويحيا فيها بوجدانه، وشعوره وعصبه، فكانت مبادئها عنده هي الحق، وما سواها الباطل، وكانت مثلها هي النواميس العملية الأصلية، وما سواها وهم خادع وسراب لا معول عليه، وكانت زهرة الحياة الدنيا تتضاءل وتتقلص أمام عينيه إلى جانب ما يفيض عليه في هالة من سعادة رزق الله، فكان زهده في دنيا المادة لا يعدله إلا زهد أهل المادة فيما لديه من مثل رفيعة شريفة، ولقد عرضت الدنيا نفسها عليه وجاءته خاطبة، وواتته الظروف ولكن هيهات أن تروج هذه الأوهام في نفس مشغولة زاخرة بالحقائق النفسية العليا.

جاءه من يعرض عليه منصبًا في فجر الدعوة سنة 1932م، ليلين عن بعض واجبه في منصب الداعي إلى الله، وكانت نظرة رثاء وإشفاق وتبكيت، ذابت لها شخصية الداعي هوانًا ودحورًا وخجلاً، ولو أنه أجاب ما عرض عليه، لكان لبنيه اليوم من يجد المنصب ونعمته ما يحسدهم عليه الكثيرون، وعرض عليه الإنجليز ذهبهم الوهاج في مستهل الحرب العالمية الماضية، ألوفًا وعشرات الألوف، من ورائها خزائن طوع أمره، ورهن إشارته، ولكن الرجل المتواضع السهل السمح أذل بكبريائه القاسية من جاء يساومه في مثله وكرامته، ونكس القوم على رؤوسهم، مدركين أن الذهب والفضة لا يعالجان بما يحسم أمره، ويخفت صوته للأبد، ولو أنه ألان لهم الجانب لما كشف أحد سره، ولما تعرض لنقمه الناقمين، وغيظ الحاقدين، ولكان لبنيه اليوم من الضياع والعمائر ما يسلكهم في أرباب الثروة الطائلة.

نعم، وهذه شركات الإخوان المسلمين يعمل في مجالس إدارتها جميعًا فتعرض عليه المرتبات السخية، والمكافآت المجزية، ولكنه يريد أن يكون مأجورًا من الله لا من الناس، فيجعل عمله في هذه الشركات حسنة له سبحانه، ولأول مرة نرى في عالم الشركات والاقتصاد هذا المثل الفذ الفريد كان حسن البنا فكرة قوية هائلة، ولفكرة لا تبغي مالاً، ولا تسعى لعرض زائل، لذا رأيناه يحيا بيننا حياة الطيف الخفيف، يلم الدنيا على هوادة، لا يجمع منها ولا يمنع، ولا يهتم لشيء فيها إلا بمقدار، ولا يصيب منها إلا ما تدعو إليه الضرورة، يأكل ما حضر من الطعام، ويلبس ما تيسر من اللباس، ويتخذ ما قل وكفى من السكن، ويعيش عيشة الكفاف، ولا يهمه أن يترك بنيه لله تعالى ولا شيء معهم، وكل قرة عينه، وبهجة نفسه، أن ينادي في الناس بكلمة الله، ويعلن إليهم ما في صدره من الأسرار، وأن يرى فضائل فكرته ومثله العليا حقائق واقعة، وصورًا عملية تسعى في حياة الناس على قدمين وتزحم بمناكبها العريضة كل ما يعترضها من باطل، وتنضر وجه الدنيا بإبائها وعفتها، فإذا بلغ من ذلك ما أراد رضيت الفكرة في نفسه وبسمت في قرارة فؤاده بسمة لها من سنا وجه الله نعيم ونور وغبطة.

ولقد كان للناس قبل حسن البنا يقرأون نصوص الدين ويستمتعون لمواعظه، فلا يكاد يعلق بنفوسهم شيء منها، فلما جاء بعث الراكد وحرك الهامد، وأثار الأشواق، وعلق هم العاملين بالأفق الأعلى... ولم يأت حسن البنا بعلم جديد ولم يكن حسن البنا بأعلم العلماء، إنما كان شأنه وشأن غيره، إن الغير يعرض الفكرة الإسلامية ما استطاع، أما هو فكان الفكرة الإسلامية تعرض نفسها حية سافرة... تعرض نفسها على لسانه بيانًا جزلاًَ مفصلاً. وتعرض نفسها في لهجة صوته خشوعًا وحنينًا وروحًا غريبًا تطمئن به القلوب وتعرض نفسها على ملامح وجهه قوة ناطقة بما يشاء، وتعرض نفسها في نور عينيه نظرات نافذة ملهمة، تلهم القلوب والنفوس جميعًا. فإذا نور جديد يشرق في جوانب النفس، وحياة جديدة تنشر ميت القلوب، وإذا بالناس إزاء الإسلام الحي الخالد كأنهم إزاء كلام محدث جديد، وأمر تربو به نفوسهم لا عهد لهم به.

جاء حسن البنا والإسلام قد درست معالمه في أذهان أكثر الناس، فهو عندهم صلاة ركعات، وصيام أوقات، وطقوس تؤدى في زوايا المساجد، جاء والإباحية تهدد كل ما بقي لنا من فضيلة، والنفوس هامدة ميتة، قد استنامت للغاصب في أحضان دعة ذليلة فاترة، قانعة في جهادها بما لا يخرجها عن الدعة، ولا يكلفها إلا العافية من كل بلاء... جاء والشباب لا يرى في الإسلام إلا مجموعة بالية من الأفكار المتخلفة عن ركب الحضارة، والحكام ينبذون تشريع السماء، ويستمدون لنا الإصلاح من تشريعات الأجانب، والاستعمار يبارك كل هذه المفاسد، ويملي لها أن تذهب إلى آخر مدى، وليست العبرة هنا أن نجح في عرض ملامح الإسلام كاملة، فإذا هو دين ودولة، وصلاة وجهاد، وروحانية ومادة، وعقيدة وشريعة وتصوف وعمل، ليست العبرة في ذلك ولا في أنه نجح عمليًّا في إعداد كتائب الغزاة، الذين خرجوا من أرض الوطن للجهاد في سبيل الله لأول مرة في تاريخ الإسلام الحديث.. ولا في أنه حبب لشباب ما في الإسلام من نظم تقدمية للمجتمع الراقي،... لا، ولا في أنه دفع التشريع الإسلامي إلى بيئات القانون والتشريع، حتى استطاع أن يوجد له في داخلها أنصارًا وأعوانًا، وفي خارجها رأيًّا عامًا ينادي به، ويدعو إليه... ليست العبرة في هذا كله، ولا في أنه غزا ميدان الاقتصاد باسم الإسلام، فنجح في إنشاء الشركات التجارية، والمؤسسات الصناعية.. ليست العبرة في هذا، ولا في غيره مما لا نطيل بذكره، إنما لب العبرة نستخلصه من بين شقي الرحا.. .. رحا الصراع الهائل الذي نشب بينه وبين القوى المختلفة، أو بينه وبين عوامل الجهل والهمود والطغيان والهوى، دعا إلى الجهاد والقوة، وأنحى باللائمة على أولئك الذين ضيعوا تلك الفريضة المقدسة.... فذعر الاستعمار، وحق له أن يذعر، ونشط إلى دسائسه يحيك منها ما يحيك، وهب إلى الحكام يقولون: فوضى وثورة على القانون... ومضى الذين لا يعجبهم العجب ينقون كالضفادع في جهالة وسخف: ما لنا وللجهاد؟!! كان الجهاد أيام النبي والخلفاء! وأين نحن من تلك الأيام؟!!.

ونشط الداعي إلى عدالة الإسلام يندد بجشع الرأسمالية، وظلم أولئك الذين يستحلون من جهود الضعفاء ما ليس لهم بحق، فقالوا شيوعي مدمر، يدعو إلى إفساد ما بين الطبقات.
ولم يطق المسلم الحي أن يغزوه الإلحاد الشيوعي في عقر داره، فانبرى لمنازلته في قوة وإيمان، فقالوا: فاشية تنزع إلى الدكتاتورية والتعصب.

وأعلنت الفكرة الإسلامية حق الوطن في الجلاء، ووحدة وادي النيل، وأبت إلا أن تقول للمحسن أحسنت، وللمسيء استقم على أمر الله، فكانت الطامة العارمة، والقيامة التي لم تهدأ ثائرة الأحزاب منها، ما للدين يتدخل في السياسة، وما للسياسة تمتزج بالدين؟!!!.

وهبت معارضة جاهلة من العوام، ناعية على أولئك الذين أفسدوا الدين بالسياسة، وأقحموا السياسة في صميم الدين، ورمي الرجل من أجل ذلك بعداوة المعادين، وبغض الناقمين ودسائس الكائدين، ورمي بكل مساءة في خلقه ودينه وعرضه، وقيل إنه مأجور، وإنه مرتشٍ، وذهبت الأراجيف تتحدث عن عشرات الألوف التي قبضها، والسيارات التي حازها، وأسهم الشركات التي اقتناها من الدجل باسم الدين، وأخيرًا، لم يكفهم أن ينالوا من الرجل في كل هذا فقتلوه في نذالة وضعة، ليخلف أبناءه في شقة بالية مهدمة، وكان يدفع عن سكنه فيها مائة وثمانين قرشًا عن كل شهر، وتتقلص عشرات الألوف أو مئاتها عن صبية صغار يخلفهم في هذه الدنيا لا ماء ولا شجر.

ثارت لعدائه هذه القوى جميعًا، فكان أمامه دسائس الاستعمار، وأمامه جبروت الحكام، وأمامه الرأسمالية الظالمة والشيوعية الملحدة الهادمة، وحقد الحزبية الجامحة، وجهل بعض العامة، حين يندفعون إلى معارضة ما لا يعلمون، وأمامه كيد اليهود وغير اليهود من كل ناقم ومغيظ، فلو أن حسن البنا كان رجلاً يعتنق فكرة، لأشفق على نفسه وعلى فكرته من منازلة هؤلاء الأعداء جميعًا، ولطوى في نفسه بعض ما يؤلب عليه هذه القوى التماسًا لشيء من العافية في وقت يلتمس فيه دعاة الجهاد المزيف كل العافية.

لو أن حسن البنا كان رجلاًَ يعتنق فكرة لاتخذ لنفسه مسلك السلامة بين هذه القوى، ولكنه رجل سلكته فكرة وفاضت على عقله وقلبه، وعزيمته، وعصبه، وسخرته لمشيئتها، كان شحنة هائلة من روحانية الإسلام، فكان عليه أن يبلغ بقدر الله كل ما أمامه من بينات وآفاق ومحيطات، وما كان يملك أن ينازل بعض أعدائه ويهادن بعضًا.. وما كان يسعه في دين الله حين نازل الرأسمالية، أن يترك إلحاد الشيوعيين يسرح ويمرح في أنحاء البلاد، انتظارًا لفراغه من معركة الرأسمالية!! كلا، وما كان يسعه هذا الدين أن يترك فلسطين تقع غنيمة للطغيان، اعتذارًا بأنه لا يستطيع أن يحارب في ثلاث جبهات!!. إن شيئًا من ذلك كله ما كان يسعه، بل ما كان يملكه، لأن الرجل كان فكرة، والفكرة وحدة متماسكة الأجزاء، وإذا أسفرت شمسها الرائعة، أسفرت بكل عناصرها مرة واحدة من كل البيئات والأنحاء وهذا هو لب العبرة في جهاد هذا الإمام.

وبعد فهل نجح حسن البنا في رسالته؟ سؤال يختلف في الإجابة عنه الكثير من الناس، فمن قال إنه نجح، نظر إلى منشآته التي أقامها، وتشكيلاته التي بناها، ومن قال غير ذلك، أيد قوله بأن الشيوعية لا تزال قائمة، وأن فلسطين أفلتت من يد العرب، وأن الغاصب لا يزال جاثمًا على صدورنا وأن، وأن،.. .. وكلا الفريقين محجوب عن حقيقة هذا الإمام العظيم، فليست العبرة أنه نجح في تكوين شركات، وتأليف هيئات وجماعات، فما هو أهون أن تصطنع المظاهر الكاذبة.

وليست العبرة كذلك أنه انتصر على القوى التي نازلها أو لم ينتصر، وإنما العبرة بالسر الكامن وراء ذلك كله، فقد كان حسن البنا طاقة ضخمة من الحياة أراد لها الله أن يجدد بها المجتمع، ويطلق سرها في الأفق الهامد الراكد، وبدون هذا السر لا تقوم رسالة، ولا يطرأ على الأفق شيء جديد.

ولقد أسلفنا فيما مضى إشارة إلى القوى التي قامت تناهض المرشد وتنابذه، وما تلك القوى إلا جراثيم الشر والفساد، أفزعها ما بدأ يدب في الجسم المريض العفن من مدد الحياة الجديدة، ودفقات البرء والصحة، نعم لقد بدأت الحياة تدب في الجسم الهامد، مباركة باسم الله زاكية فذعرت جراثيم العفن، وتقلقلت الخلايا الميتة، وجزع ما كان يعيش عليه من حشرات سامة خبيثة، ولكن لن ينفع الجزع شيئًا، فقد تغلغلت الحياة في أطوائه نامية متجددة، وتوالت عليه رجفات النشور بالخلايا الجديدة تطهر العفن وتطرد ما فوقها من قشور بالية... وبين رجفات النشور وصيحات الاستنكار والذعر، انقدح في الأفق كهرباء التطور الجديد... وسكب حسن البنا آخر دفقة من حياته مع آخر نبضة من قلبه، فمن أراد أن يعرف حسن البنا فليوفر على نفسه استقصاء منشآته، وتشكيلاته، ومؤلفاته، وتوجيهاته، وليذكر أن براعم الجيل الجديد كانت تتفتح يوم مقتله على حقبة تعج بأخبار المعتقلات، وأنباء السجون، وأرواح الشهداء وأحاديث الملاحم، ودوي القنابل، وزلزلة المحنة وبلاء المؤمنين، ليذكر أن براعم الجيل الجديد كانت ولا تزال تتفتح على جو مكهرب مشحون بسيول قوية دافقة، ليذكر هذا الجو الذي أتيح لهذه البراعم، والجو الرخو الناعس الذي تفتحت فيه براعم جيلنا الماضي، فإنه مدرك أي مس تنشقه البراعم الناشئة وأي طراز جديد من الرجال سيمثل الميدان في المستقبل العتيد.

ذلكم الجو المشبع بالقوة والأمل والعزم، هو غذاء أعصاب الجيل الجديد، وهو رسالة الحياة التي أداها حسن البنا لهذا المجتمع في مدى عشرين عامًا من دم قلبه، وعصارة روحه، حتى إذا كان يوم اغتياله اقشعر الأفق برجفة عنيفة إذ سرت في ضميره آخر شحنة من كهرباء تلك الحياة المباركة.

وقال الناس يومئذ: مات حسن البنا... وقال قدر الله... لا فهو حيّ في أتباعه، وهو حي أكثر من ذلك في تلك البراعم التي لم يرها ولم تره.

لم يمت حسن البنا، وإنما انطلقت مبادئه من إطارها الذي ألزمته حيًّا وتحررت الفكرة الإسلامية من نطاق اللحم والدم لتواصل أمرها في آخرين.. انطلقت الفكرة من قلب واحد لتربو من جديد في قلوب هيأها الله على قدر... أما الإطار الطاهر والجسم العزيز فقد رد إلى أهله ليخرج من هذه الدنيا متواضعًا يسير المظهر، كما دخلها متواضعًا يسير المظهر وكما عاش فيها كذلك، وساهمت الحكومة المتحضرة في هذا التواضع واليسر فحرمت المشيعين أن يقربوه ورأى الناس يومئذ عجبًا في الجنازات، رأوا نعشًا يحمل لأول مرة في تاريخ البشر على أعناق النساء، وفي مقدمتهن فتاة قوية صبور تهتف بأبيها: قر عينًا يا أبتاه فلن نتخلف عن رسالتك، ولينهك قدومك على الله مقدم الشهداء.. ولئن منعت الحكومة من يشيع جثمانك، وأسفاه لنذالة الحكام- فحسبنا عزاء أو جزاءً أن أرواح الشهداء تمشي معنا، وتشيع عن أهل السماء ما عجز عن تشييعه أهل الأرض.

وفي وحشة الشارع المقفر الغادي والرائح، إلا من هذه الجنازة المتمهلة الفريدة، ارتجت المنازل على الجانبين واجهشت النوافذ والشرفات بالبكاء، وهم يرون حسن البنا العظيم، يحمل على كتف زوجته وابنته إلى مقره الأخير". [مجلة الدعوة 13 فبراير 1951م]

2 تعليق على "ذكرى الإمام البنا.. التضحية = استمرار الدعوة"

.
gravatar
غير معرف يقول....

كلما رأيت صورة للامام او قرأت له ..احسست بشوق غريب لعصره وتمنيت ان اكون احد حواريه ..فترى وجها مبتسما فى برائه محبا فى اصرار متواضعا فى وقار ..فلقد كان مثال القائد والامام صاحب رسالة سامية هو عنوانها ...
مما دعانى لنقد قادة الجماعة الان الذين ابتعدوا عن عمال وفلاحين وصناع وبسطاء الشعب مما حرمهم من تأييد قطاعات كبيرة وحرم هذة القطاعات من انضمامها للجماعةو يتلقوا رسالة سامية حاملوها هم عنوانها ...كما تمتعوا بها ايام الامام ....جزاه الله خيرا واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والانبياء والشهداء .

أترك تعليقا